- -
- 100%
- +
نهض تور بسرعة على قدميه, في الوقت ذاته, ثبت الحارس قدمي تور. حدق تور في وجهه, مصعوقاً بما قام به للتو. أمامه, كان وجه الحارس متجهماً.
"لن أكبلك فقط," هسهس الحارس, "ولكنني سأجعلك تدفع الثمن. لا أحد يلمس حرّاس الملك و ينجو! انسى أمر انضمامك إلى الفيلق, سوف تنفى بعيداً في زنزانة! ستكون محظوظاً إذا رآك أحد بعدها!"
سحب الحارس سلسلة بقيودٍ في نهايتها. اقترب من تور, ونظرة الانتقام في عينيه.
تزاحمت الأفكار في عقل تور. لا يمكن أن يسمح لنفسه أن يكون مكبلاً, لكنه لا يريد أن يؤذي أحد حراس الملك. كان عليه أن يفكر بشيء وبسرعة.
تذكر مقلاعه. لم تستغرق ردة فعله أكثر من لحظة, وضع الحجر, حدد الهدف, ورماه في الهواء.
ارتفع الحجر في الهواء وأصاب الأغلال التي كانت في يد الحارس المذهول, لقد أصاب أيضاً أصابع الحارس. سحب الحارس يده, وهو يصرخ من الألم, بينما وقعت الأغلال على الأرض.
ألقى الحارس نظرة توعّد بالموت على تور, استل سيفه. خرج السيف مع حلقة معدنية مميزة.
"كانت هذه فرصتك الأخيرة’" قال الحارس مهدّداً بشكل مرعب, ثمّ وجّه سيفه.
لم يكن لدى تور أية خيارات, هذا الرجل لن يتركه أبداً. وضع حجراً آخر في مقلاعه والقاه على الحارس. لقد قصد عمداً أن لا يقتل الحارس, ولكنه اضطر لإيقافه. لذلك بدل أن يستهدف القلب أو الأنف أو العين أو الرأس, استهدف تور مكاناً واحداً كان يعرف أنه سيمنعه, ولكن لن يقتله.
بين ساقين الحارس.
ترك الحجر يطير لكن ليس بكامل قوته, لكن يكفي أن يصيب أسفل الرجل.
كان استهدافاً رائعاً.
سقط الحارس أرضاً, موقعاً سيفه, وواضعاً يده على خصيتيه وقد انهار على الأرض يتلوى من الألم.
"ستشنق عقاباً على ما فعلته," قال غاضباً وسط همهمات من الألم. " أيها الحرس! الحرس!"
نظر تور ورأى العديد من حراس الملك على مسافة منه يتوجهون إليه.
كان الآن أو أبداً.
دون إضاعة لحظة أخرى, انطلق إلى حافة النافذة. كان يجب أن يقفز من خلالها, إلى الساحة, ويعرّف عن نفسه. كان يمكن أن يقتل أي شخص يقف في طريقه.
الفصل الخامس
كان ماكجيل جالساً في القاعة العلوية من قصره, في قاعة الاجتماعات الخاصة, التي يستخدمها للشؤون الشخصية. جلس على عرشه الحميمي, الذي كان منحوتاً من الخشب, ونظر إلى أولاده الأربعة وهم يقفون أمامه. كان هناك ابنه البكر, كندريك, ذو الخمسة و العشرين عاماُ, محاربٌ فذّ و رجل حقيقي. كان من بين كل أبنائه, أكثرهم شبهاً لماكجيل, الأمر الذي كان يدعو إلى السخرية. كان هذا الطفل الغير شرعي, هو الخيانة الوحيدة لماكجيل مع امرأة أخرى, امرأة أصبحت منذ فترة طويلة طيّ النسيان. ربى ماكجيل كندريك مع أولاده الشرعيين, على الرغم من احتجاجات الملكة في البداية, بشرط أنه لن يعتلي العرش. هذا ما كان يؤلم ماكجيل الآن, منذ أصبح كندريك خيرة الرجال التي عرفهم في حياته, لقد كان ابناً يفخر به. لولا ذلك لما كان هناك وريث يستحق العرش أكثر منه.
بجانبه, في تناقض صارخ, وقف ابنه الثاني, ابنه الشرعي البكر, جاريث. كان في الثالثة و العشرين من عمره, نحيل ذو خدين جَوفَاوين, وعينين بنيّتين كبيرتين لم تتوقفا عن التحرك. لا يمكن لشخصيتان أن تختلفا كاختلاف شخصيته عن أخيه الأكبر. كان كل شيء في طبيعته يختلف عن كندريك, بينما كان شقيقه صريحاً, كان جاريث كتوماً لأفكاره, وحيث كان شقيقه نبيلاً وشريفاً, كان مخادعاً وغير شريف. كان ذلك يؤلم ماكجيل بأن يكره ابنه, وقد حاول مرات عديدة لتصحيح شخصيته, ولكن بعد تصرفات معينة في سنوات مراهقته, قرر ماكجيل أن طبيعته كانت مقدرة, المكيدة و التعطش للسلطة و الطموح الخاطئ بكل معنى الكلمة. كان جاريث أيضاً ليس لديه ميل للنساء, بل كان لديه الكثير من العشّاق الذكور. كان من الممكن لغيره من الملوك أن يخلعوا مثل هذا الابن, ولكن ماكجيل كان أكثر انفتاحاً, لم يكن هذا السبب لعدم حبه. لقد كان يحكم عليه بمدى شره وطبيعته الماكرة, التي كانت شيئا لا يمكن أن يغفل عنه.
اصطف بجانب جاريث ابنة ماكجيل الثانية, جويندولين. لقد أتمّت للتو عامها السادس عشر, كانت جميلة بشكل لم ترى عيناه مثلها في حياته, وقد تفوقت طبيعتها على مظهرها حتى. كانت لطيفة و سخية و صادقة, خيرة الفتيات التي عرفها على الإطلاق. في هذا الشأن, كانت مماثلة لكندريك. كانت تنظر إلى ماكجيل بنظرة حب الفتاة لوالدها, كان يشعر دائما بوفائها له في كل نظرة. كان فخوراً بها حتى أكثر من أبنائه.
بجانب جويندولين كان يقف أصغر أبناء ماكجيل. ريس, غلام صغير مفعم بالحيوية والفخر, في الرابعة عشر من عمره, كان يصبح رجلاً. كان ينظر إليه ماكجيل بسرور بالغ لانضمامه إلى الفيلق, واستطاع أن يرى فيه الرجل الذي كان على وشك أن يكون. في يوم ما, كان ماكجيل يعرف بلا شك أن ريس سيكون أفضل أبنائه, وحاكماً رائعاً. ولكن ذلك اليوم لم يكن قد حان. كان مازال صغيراً جداً, ولا يزال هناك الكثير ليتعلمه.
شعر ماكجيل بمشاعر مختلطة بينما كان يعاين أبنائه الأربعة, أولاده الثلاثة و ابنته, واقفين أمامه. لقد شعر بالفخر المختلط بخيبة الأمل. وشعر بالغضب والانزعاج أيضاً لغياب اثنين من أولاده, الابن الأكبر وابنته لواندا, بالطبع كانت تستعد لحفل زفافها, و منذ أن زُوّجت لمملكة أخرى, لم يكن لوجودها داع في مناقشة عن وليّ العهد. ولكن ابنه الآخر, غودفري, الذي كان في الثامنة عشر من عمره, أوسط أولاده, كان غائباً. احمر وجه ماكجيل من الغضب.
منذ أن كان صبياً, كان يُظهر غودفري عدم الاحترام للمملكة, كان من الواضح دائماً أنه لا يهتم لأمورها, ولن يعتلي العرش أبداً. وأكبر خيبة أمل لماكجيل, أن غودفري اختار بدلاً من ذلك إضاعة وقته في الحانات مع أصدقائه الأوغاد, مما سبب للعائلة الحاكمة العار والخزي المستمر. كان كسولاً يقضي معظم أيامه نائماً ويملئ وقته في بقية أيامه بالشرب. من ناحية, شعر ماكجيل بالارتياح أنه لم يكن هنا, ولكن من ناحية أخرى, كانت إهانة بأنه لم يكلف نفسه عناء الحضور. كان في الواقع قد توقع هذا, وكان قد أرسل رجاله لتمشيط الحانات وإعادته. جلس ماكجيل بصمت, ينتظر, حتى فعلوا.
انفتح باب البلوط الثقيل أخيراً ودخل الحرس الملكي يجرون غودفري بينهم. دفعوه إلى الأمام, وتعثر غودفري إلى الغرفة بينما أغلق الباب خلفه.
التفت أشقائه وشقيقته إليه يحدقون فيه. كان غودفري قذراً, تفوح منه رائحة الجعة, غير حليق و يرتدي نصف رداء. ابتسم في وجوههم, بوقاحة. كما هو دائماً.
"مرحبا, أبي." قال غودفري, "هل فاتتني التسلية؟"
"ستقف مع إخوتك وتنتظرني لأتكلم. إذا لم تفعل ذلك, فليساعدني الرب, سأقيدك في الأبراج المحصنة مع بقية السجناء العاديين, و إنك لن ترى الطعام و لن تحلم بالجعة لمدة ثلاثة أيام."
حملق غودفري في والده متحدياً. خلال تحديقه, اكتشف ماكجيل بعض القوة الكامنة العميقة فيه, وشيئاً من نفسه, شرارة من شيء يمكن أن يخدم غودفري يوم ما. وهذا, إذا كان يمكن أن يتغلب بأي وقت على شخصيته الخاصة.
بتمرد حتى النهاية, انتظر غودفري عشر ثوان قبل الامتثال أخيراً والاصطفاف أمام الآخرين.
نظر ماكجيل على أولاده الخمسة الذين وقفوا أمامه: الولد الغير شرعي, والمنحرف, والسكير, وابنته, وأصغر أولاده. كان مزيجاً غريباً. كان لا يستطيع تصديق أن جميعهم أولاده. و الآن في زفاف ابنته البكر, فإن مهمته هي اختيار وريث من هذه الحزمة. كيف كان ذلك ممكناً؟
كان ذلك ضرباً من العبث. على كل حال, إنه مازال في أوجه, ويمكن أن يحكم لأكثر من ثلاثين عاماً. أياً كان الوريث الذي سيختاره لن يعتلي العرش قبل عقود, لقد أثار غضبه هذا التقليد بأكمله. ربما كان له معنى في زمن آبائه, ولكن لم يكن له داع الآن.
"إننا نجتمع هنا اليوم بناءً على التقاليد. كما تعلمون, في هذا اليوم, يوم زفاف ابنتي البكر, تقع مهمة على عاتقي لتسمية وريث لي, وريث لحكم هذه المملكة. عندما أموت, لن يكون هناك أحد يصلح للحكم أكثر من والدتكم. ولكن قوانين مملكتنا تفرض بأن يكون الملك من الورثة فقط. وبالتالي, لابد لي من الاختيار."
اشتعلت أنفاس ماكجيل, مفكراً. ساد صمت ثقيل في الأرجاء, وكأنه كان يشعر بثقل الترقب. كان يتطلع في أعينهم, ويرى تعابير وجوههم المختلفة. كان ولده الغير شرعي مستكيناً, وهو يعلم بأنه لن يكون المختار. عيون الولد المنحرف كانت تتوهج بالطموح, كما لو أنه يتوقع بأن الخيار سيقع عليه بشكل طبيعي. أما ابنه السكير فكان ينظر من النافذة, غير مهتم. كانت ابنته تنظر إليه بحب, وهي تعلم أنها ليست جزء من هذه القرارات, ولكنها تحب والدها بالرغم من ذلك. كان أصغرهم يشعر بالشيء نفسه.
"كندريك, لقد كنت دائماً الابن البار. ولكن قوانين مملكتنا تمنعني من تولية العرش إلى أيّ شخص غير شرعي."
انحنى كندريك, " أبي, وأنا لم أتوقع منك أن تفعل ذلك. أنا مقتنع بقسمتي, من فضلك لا تدع هذا يربكك."
تألم ماكجيل من رده, حين شعر كم هو صادق وتمنى أن يسميه وريثاً أكثر من كل أولاده.
"هذا يترك لي أربعة منكم. ريس, أنت من خيرة الفتيان, وأنبل ما رأيت في حياتي. ولكنك أصغر من أن تكون جزءاً من هذا النقاش."
"كنت أتوقع ذلك, والدي." أجاب ريس مع انحناءة خفيفة.
"غودفري, أنت أحد أبنائي الثلاثة الشرعيين, لقد اخترت أن تضيع أيامك في الحانات, مع القذارة. كان من الممكن أن تأخذ كل الامتيازات في حياتك, ولكنك أهدرتها جميعها. إذا كان لدي خيبة أمل كبيرة في هذه الحياة, فهي أنت."
عبس وجه غودفري و التفت بشكل غير مريح.
"حسناً, إذن, أعتقد أنني انتهيت من هذا, ويجب أن أتوجه إلى الحانة, أليس كذلك يا والدي؟"
بانحناءة ساخرة سريعة, التفت غودفري يتهادى في جميع أنحاء الغرفة.
"عد إلى هنا! صاح ماكجيل. "الآن!"
استمر غودفري في التهادي, متجاهلاً والده. عبر الغرفة وفتح الباب.
كان اثنين من الحراس يقفان هناك.
اشتعل غضب ماكجيل بينما نظر إليه الحراس متسائلين.
ولكن غودفري لم ينتظر, شق طريقه بينهم, إلى القاعة المفتوحة.
"اعتقلوه" صاح ماكجيل." وأبعدوه عن نظر الملكة. لا أريد أن تثقل بهمه في يوم زفاف ابنتها."
"أمرك, سيدي" قال الحراس. وأغلقوا الباب مسرعين خلفه.
جلس ماكجيل هناك, يتنفس بصعوبة محمر الوجه, يحاول تهدئة نفسه. للمرة الألف, تساءل في نفسه ماذا فعل ليسمح لولده بأن يصبح على هذه الشاكلة.
أعاد نظره إلى باقي أولاده. أربعة منهم بادلوه النظرات, ينتظرون في صمت عميق. أخذ ماكجيل نفساً عميقاً, في محاولة للتركيز.
"وهذا يترك اثنين منكم" تابع ماكجيل " ولقد اخترت خليفتي منكم."
التفت ماكجيل إلى ابنته.
"جويندولين, أنت من ستكونين وريثتي."
كانت هناك شهقة في الغرفة, بدت الصدمة على وجوه أولاده جميعهم, ومن بينهم جويندولين.
"هل أنت متأكد, يا والدي؟" سأل جاريث. "هل قلت جويندولين؟"
"والدي, هذا يشرفني" قالت جويندولين. "لكن لا يمكنني القبول, أنا امرأة."
"صحيح, لم تجلس امرأة من قبل على عرش مملكتنا. ولكن لقد قررت أنه حان وقت تغيير التقاليد. جويندولين, أنت من خيرة الفتيات الشابات بعقلك وروحك. أنت صغيرة في السن, ولكن شاء الله أن تكوني وريثتي, يجب أن لا أموت في وقت قريب, وعندما يحين الوقت, سيكون لديك من الحكمة ما يكفي للحكم, وستكون لك المملكة."
"لكن أبي!" صرخ جاريث, بوجه شاحب." أنا ابنك الشرعي البكر! دائما, في كل تاريخ ماكجيل, ذهب الحكم إلى الابن البكر!"
"أنا الملك," أجاب الملك بوجه مكفهر, "أنا من يحدد التقاليد."
"ولكن هذا ليس عدلاً!" ناشد جاريث, وهو ينتحب." كان من المفترض أن أكون الملك, وليس أختي. ليس امرأة!"
"أغلق فمك يا فتى!" صاح ماكجيل, "هل تجرؤ على معاندة حكمي؟"
"هل هذا ما تظنه بحكمي؟ أنني أسلم الحكم لامرأة؟ لقد اتخذت قراري," قال ماكجيل. " وسيكون عليك احترامه, وتنفيذه بطاعة, ككل قراراتي في مملكتي. الآن. يمكنكم جميعكم أن تغادروا"
أحنى أولاده رؤوسهم بسرعة و سارعوا بالخروج من الغرفة.
ولكن جاريث توقف عند الباب, غير قادر على المغادرة.
التفت إلى الوراء, لوحده, واجه والده.
استطاع ماكجيل أن يرى خيبة الأمل في وجهه. من الواضح أنه كان يتوقع تسميته كوريث اليوم. حتى أكثر من ذلك, كان يريد ذلك بشدة. تلك لم تكن مفاجأة لماكجيل على الأقل كان هذا سبباً لعدم اختياره.
"لماذا تكرهني, يا والدي؟" سأل جاريث.
"أنا لا أكرهك. أنا لم أجد أنك تصلح لحكم مملكتي فقط."
"والسبب في ذلك؟" سأل جاريث.
"لأن ذلك هو بالضبط ما تسعى إليه."
تحول وجه جاريث إلى اللون القرمزي. من الواضح, أن ماكجيل جعله ينظر إلى طبيعته الحقيقية. شاهد ماكجيل عيناه, رآهم يحترقون بكراهية لم يكن يتخيلها أبداً.
من دون أن ينطق بكلمة أخرى, اندفع جاريث من الغرفة وأغلق الباب وراءه.
مع تردد صدى صوت الباب, ارتجف ماكجيل. مع تخيله لكراهية ابنه العميقة, أعمق حتى من كراهية أعدائه. في تلك اللحظة, تذكر أرجون و كلماته, عن الخطر الذي يصبح أقرب.
هل يمكن أن يكون الخطر أقرب من هذا؟
الفصل السادس
انطلق تور عبر الساحة الواسعة, بكل ما لديه من قوة. كان يسمع خطى حراس الملك خلفه, على مقربة منه. لقد طاردوه عبر الأرض الحارة الترابية, يشتمونه و هم يركضون. قبل دخوله كان أفراد الفيلق والمجندين الجدد منتشرين, عشرات من الفتيان, مثله, ولكن أكبر وأقوى. كانوا يتدربون ويُختبرون في تشكيلات مختلفة, بعضهم يرمي الرماح, و الآخر يلقي الحراب, وعددٌ قليل منهم يتدرب على قبضة الرماح. كان يرمون لأهداف بعيدة, ونادرا ما يخطئون الهدف, كانت هذه منافسة بينهم, وكانوا يبدون هائلين.
كان بينهم عشرات من الفرسان الحقيقيين, وأفراد من فرقة الفضة, يقفون في شكل نصف دائرة واسعة يراقبون التدريبات. يحكمون عليهم, و يقررون من سيبقى و من سيتم أرساله إلى دياره.
كان يعلم تور أنه عليه إثبات نفسه, وأن يثير إعجاب هؤلاء الرجال. في غضون لحظات يمكن للحراس أن يحاصروه, وإذا كانت لديه فرصة ليترك انطباعاً لديهم, سيكون الآن هو الوقت المناسب. ولكن كيف, تزاحمت الأفكار في عقله بينما كان يعدو عبر الساحة, مصراً على عدم ابتعاده.
كان تور يهرع عبر الميدان, حين بدأ الآخرون ينتبهون لوجوده. بعض المجندين توقفوا عمّا كانوا يفعلونه واتجهت أنظارهم إلى تور, كما فعل بعض الفرسان أيضاً. في غضون لحظات, شعر تور أن انتباه الجميع مركز عليه, كانوا ينظرون حائرين, وأدرك أنه من المؤكد أنهم يتساءلون من الذي كان, يركض عبر ميدانهم, وثلاثة من الحرس يطاردوه.
لم يكن هذا عن أنه يريد خلق انطباع فقط. كانت هذه حياته كلها, عندما كان يحلم بالانضمام إلى الفيلق, لم يكن هذا ما تخيله.
بينما كان تور يركض و يناقش ما يجب القيام به, رأى أمامه شيئاً لم يكن يتوقعه . كان صبياً كبيراً, من المجندين, قرر أن يأخذ على عاتقه مهمة إيقاف تور ليثير إعجاب الآخرين. كان طويل القامة, ذو عضلات كبيرة, تقريباً ضعف حجم تور, رفع سيفه الخشبي ليوقف طريق تور. تور رأى أن الفتى عازمٌ على إسقاطه أرضاً, ليجعل منه سخرية للجميع, وبالتالي يكسب لنفسه تفوقاً عن غيره من المجندين.
جعل هذا تور غاضباً. لم يكن لدى تور القدرة على الإمساك بهذا الصبي, ثم إن صراعه لم يكن معه. لكن هو من جعلها معركته, فقط للحصول على بعض المزايا عن الآخرين.
عندما اقترب أكثر, لم يستطع تصديق حجم هذا الصبي, كان أطول منه, مكشراً عن أسنانه مع خصلات شعر أسود كثيف تغطي جبينه, وكان يملك أكبر فك عريض رآه تور في حياته. لم يكن يعلم كيف سيواجه هذا الصبي.
رفع الصبي سيفه الخشبي باتجاهه, وعرف تور أنه إن لم يتصرف بسرعة, سوف يرمى خارجاً.
بدأت ردود فعل تور تظهر, أخرج مقلاعه بشكل غريزي, رجع إلى الوراء, وألقى صخرة على يد الصبي. أصابت هدفها وأوقعت السيف من يده, حيث كان الصبي يستعد لضرب تور به, طار السيف في الهواء, وبدأ الصبي بالصراخ, ممسكاً بيده.
لم يُضع تور أي وقت. استعد, مستفيداً من هذه اللحظة, وقفز في الهواء, راكلاً الصبي, غرس قدميه مباشرة على صدر الصبي. ولكن الصبي كان ثخيناً جداً, شعر بأنه ركل شجرة بلوط. تعثر الصبي بضع خطوات فقط, في حين تجمد تور كما هو وسقط عند قدمي الصبي.
هذا لا يبشر بالخير. فكر تور بينما كان يرتطم بالأرض, شعر بدويّ في أذنيه.
حاول النهوض على قدميه, ولكن الصبي كان على بعد خطوة منه. انحنى إلى الأسفل, أمسك تور من ظهره ورماه في الهواء, موقعاً إياه على وجهه في التراب.
تجمع حشد من الصبيان في دائرة حوله يهللون, احمر وجه تور و شعر بالإهانة.
حاول تور النهوض, ولكن الصبي كان سريعاً جداً. في تلك اللحظة كان فوقه, ملقياً تور أرضاً.
قبل أن يدرك تور ذلك, تحولت المواجهة إلى مباراة مصارعة. كان وزن الصبي هائلاً.
كان تور يسمع صيحات المجندين الآخرين وقد شكلوا دائرة حولهم, يصرخون, متلهفين للدماء.
كان وجه الصبي مكفهراً, اقترب الصبي من وجه تور وأراد أن يضع إبهاميه في عيون تور. لم يتمكن تور من تصديق ذلك, يبدو أن هذا الصبي يريد أن يُضرب حقاً. هل يصر بالفعل أن يحصل على امتياز؟
في آخر لحظة, أبعد تور رأسه عن يد الصبي تاركاً يده تغرق في الوحل. استغل تور الفرصة ليتدحرج من تحته.
نهض تور على قدميه واقفاً أمام الصبي, الذي وقف أيضاً. اندفع الصبي موجهاً قبضته نحو وجه تور, استطاع تور أن يتفادى ضربته في الثانية الأخيرة, اندفع الهواء عبر وجهه, وأدرك أنه إذا أصابته قبضة الصبي سيكسر فكه. اقترب تور ولكم الصبي في معدته, ولكنه بالكاد فعل شيئاً, كان مثل ضرب شجرة.
وقبل أن يقوم تور بردة فعل, كان الصبي قد ضرب بمرفقه وجه تور.
تعثر تور إلى الخلف, يعاني من الضربة. كانت مثل ضربة المطرقة, وبدأ يسمع طنيناً في أذنيه.
بينما كان تور متعثراً, لا يزال يحاول التقاط أنفاسه, ركله الصبي بقوة في صدره. ارتفع تور في الهواء وسقط على الأرض, لقد سقط على ظهره. هلل الفتيان الآخرين.
شعر تور بالدوار, و نهض كي يجلس قليلاً, ولكن الصبي اندفع نحوه ولكمه مرة أخرى بقوة في وجهه, مسقطاً تور على ظهره مرة أخرى, لقد كانت هذه الضربة القاضية.
تور كان ملقاً هناك, يسمع هتافات الآخرين, ويشعر بملوحة الدم الذي ينزف من أنفه, و بأثر الضرب على وجهه. لقد كان يتلوى من الألم. نظر إلى الأعلى, كان يستطيع رؤية الصبي الكبير يذهب بعيداً, عائداً إلى أصدقائه, ليحتفل بالفوز معهم.
أراد تور أن يستسلم. كان الصبي ضخماً, وقتاله لم يكن أمراً مجدياً, وقد يصيبه بلكمات أخرى. ولكن شيئاً ما بداخله دفعه, لا يكمن أن يخسر هكذا, ليس أمام هؤلاء الناس.
لا تستسلم. انهض. انهض!
بطريقة ما استعاد تور قوته. تدحرج ونهض على يديه وركبتيه, وهو يئن من الألم, ثم ببطء استطاع النهوض على قدميه.
التفت الصبي الضخم وحدق في تور, هزّ رأسه غير مصدقٍ ما رآه.
"يجب عليك أن تبقى على الأرض, أيها الصبي" قال مهدداً, وهو يمشي مرة أخرى نحو تور.
"كفى" صاح صوت. "إيلدين قف مكانك!"
تدخل فارس فجأة, ووقف بينهم, رافعاً يده في وجه إيلدين لإيقافه. سكت الحشد, كان جميعهم يترقب الفارس, كان من الواضح أنه رجل يستحق الاحترام.
نظر تور برهبة لوجود الفارس. كان في العشرينات من عمره, طويل القامة و عريض المنكبين, صاحب فك عريض و شعر بني مُسَرَّح. أعجب به تور على الفور. درعه من الطراز الأول, وترسه مصنوع من الفضة المصقولة, ومغطاً بعلامات ملكية, شعار الصقر لأسرة ماكجيل. كان قلب تور على وشك أن يتوقف, كان واقفاً وراء فرد من العائلة الملكية, إنه بالكاد يستطيع تصديق ذلك.
"أيها الفتى, عرف عن نفسك." قال لتور. "لماذا دخلت ميداننا بدون دعوة منا؟"
قبل أن يستطيع تور الإجابة, اقتحم ثلاثة أفراد من حرس الملك دائرة الميدان. وقف قائدهم هناك, يتنفس بصعوبة, ويشير بإصبعه إلى تور.
"إنه تحدى أوامرنا!" صاح الحارس. "سأقوم باعتقاله وأخذه إلى برج الملك المحصن!"
"أنا لم أرتكب أي خطأ!" احتج تور.
"لقد فعلت الآن؟" صاح الحارس. "اقتحام ممتلكات الملك بدون دعوة؟"
"كل ما أردته هو فرصة!" صاح تور, والتفت, يتوسل إلى الفارس, فرد العائلة المالكة. "كل ما أردته هو فرصة للانضمام إلى الفيلق!"
"ميدان التدريب هذا فقط للمدعوين أيها الفتى," جاء صوت أجش.
دخل إلى الميدان محارب, في الخمسينيات من العمر, ممتلئ الجسم و أصلع الرأس مع لحية قصيرة, و ندبة على وجهه. كان ينظر كأنه كان جندياً محترفاً طوال حياته, ومن العلامات على سلاحه, والدبوس الذهبي على صدره, كان يبدو أنه قائدهم. تسارعت نبضات قلب تور, لقد كان قائداً.
"أنا لم أكن مدعواً, يا سيدي" قال تور. "هذا صحيح. ولكن كان حلم حياتي أن أكون هنا, كل ما أريده هو فرصة لأظهر لكم ما يمكنني القيام به. أنا جيد بقدر أيّ من هؤلاء المجندين. فقط أعطني فرصة واحدة لإثبات ذلك من فضلك, الانضمام إلى الفيلق هو كل ما حلمت به في حياتي."
"هذه ليست ساحة قتال للحالمين, أيها الفتى," جاء رده بصوته الأجش. " إنها للمقاتلين, ليس هناك استثناءات لقوانيننا, المجندين يتم اختيارهم."
أومأ الجنرال, واقترب حارس الملك من تور, والأغلال في يده.
ولكن فجأة تقدم الفارس فرد العائلة المالكة إلى الأمام وأبعد يده, مانعاً الحارس.
"ربما, في بعض الأحيان, قد يكون هناك استثناء," قال الفارس.
نظر الحارس إليه بذعر, ومن الواضح أنه كان يريد التكلم, ولكن اضطر ليمسك لسانه احتراماً لأحد أفراد الأسرة المالكة.
"أنا معجب بروح التحدي لديك أيها الفتى," تابع الفارس. "قبل أن نخرجك من هنا, أرغب بأن أرى ما الذي يمكنك القيام به."
"لكن كندريك, لدينا قواعد." قال القائد, مستاءً بشكل واضح.
كان يوجد هناك مواجهة, كان الجو مشحوناً. لم يستطع تور تصديق ما الذي فعله.
"أنا أعرف والدي, وأعرف ما الذي كان سيريده. كان سيريد إعطاء هذا الفتى فرصة. وهذا هو ما سنفعله."
تراجع القائد أخيراً, بعد عدة لحظات من التوتر.
التفت كندريك إلى تور, كانت عيون تور تحدق بوجهه الأسمر والقاس. وجه أمير, ولكنه وجه محارب أيضاً.
"سأعطيك فرصة واحدة," قال الفارس لتور. "دعونا نرى إذا كان يمكنك أن تصيب تلك العلامة."
أشار إلى كومة من القش بعيدة في الميدان, مع علامة صغيرة حمراء في وسطها. وقد دخلت العديد من الرماح في القش ولكن لم يصيب أي منها العلامة.
"إذا كنت تستطيع أن تفعل ما لم يستطع فعله أحد من هؤلاء الفتيان, إذا كان بإمكانك أن تصيب تلك العلامة من هنا, عندها يمكن أن تنضم إلينا."
تنحى الفارس جانباً, وتور يستطيع أن يشعر بالعيون التي تراقبه.
لمح حامل الرماح ونظر إلى كل الرماح بعناية. كانوا من خيرة الأنواع الذي رآها في حياته, كانت مصنوعة من خشب البلوط الصلب, ملفوفة بأجود أنواع الجلود. ارتعد تور وهو يخطو إلى الأمام, مسح الدم عن أنفه بظهر يده, وهو يشعر بتوتر لم يشعر به طوال حياته. من الواضح أنه أُعطي مهمة مستحيلة تقريباً. ولكنه كان يجب أن يحاول.
اختار تور رمحاً, لم يكن طويلاً جداً, ولا قصيراً جداً. لقد وزنه في يده, كان ثقيلاً وكبيراً. ليس مثل الذي كان يستخدمه في قريته.
ولكنه كان يشعر أنه ربما, ربما فقط, يمكن أن يصيب تلك العلامة. بغض النظر عن كل هذا, كان رمي الرمح من أفضل مهاراته, بجانب إلقاء الحجارة, والأيام الكثيرة التي أمضاها في البراري أعطته أهدافاً كثيرة لإصابتها. وقد كان دائماً قادراً على إصابة أهداف حتى إخوته لم يستطيعوا إصابتها.
أغمض تور عينيه وتنفس بعمق. إذا أخطأ, ربما سيعتقله الحراس ويجرونه إلى السجن, وحينها ستدمر حظوظه في الانضمام إلى الفيلق للأبد. كل ما كان يحلم به في حياته معلّق على هذه اللحظة.
دون تردد فتح تور عينيه و أخذ خطوتين إلى الأمام, أرجع ذراعه إلى الخلف, وألقى الرمح.
انحبست أنفاسه وهو يشاهده يجري في الهواء.
من فضلك أيها الرب, من فضلك.
ساد صمت قاتل, وكان يمكن لتور أن يشعر بمئات العيون تتابع ذلك.
ثم جاء صوت, صوت لا يمكن أن يخطئ, صوت اختراق الرمح للعلامة. لم يكن تور مضطراً لأن ينظر. كان يعلم فقط أنها كانت إصابة محكمة. كان المسار الذي شعر به حين ترك الرمح يده, و زاوية معصمه, هو ما أخبره بأنها ستصيب.
تجرأ تور على النظر, ورأى مع ارتياح كبير, أنه كان على حق. وجد الرمح في مكانه وسط العلامة الحمراء, الرمح الوحيد الذي كان فيها. لقد فعل ما عجز الآخرون عن فعله.
كان صمت المذهولين يلفه, بينما كان يشاهد أفواه المجندين والفرسان فاغرة في وجهه.
أخيراً, تقدم كندريك و ربت على ظهر تور بقوة, و مع صوت هذا الاستحسان, ابتسم ابتسامة عريضة.
"كنت محقاً" قال كندريك. "يمكنك البقاء!"
Конец ознакомительного фрагмента.
Текст предоставлен ООО «ЛитРес».
Прочитайте эту книгу целиком, купив полную легальную версию на ЛитРес.
Безопасно оплатить книгу можно банковской картой Visa, MasterCard, Maestro, со счета мобильного телефона, с платежного терминала, в салоне МТС или Связной, через PayPal, WebMoney, Яндекс.Деньги, QIWI Кошелек, бонусными картами или другим удобным Вам способом.